فصل: تفسير الآية رقم (56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (54):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)}
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم {فِى هذا القرءان} الجليل الشأن {لِلنَّاسِ} لمصلحتهم ومنفعتهم {مِن كُلّ مَثَلٍ} أي كل مثل على أن من سيف خطيب على رأي الأخفش والمجرور مفعول {صَرَفْنَا} أو مثلًا من كل مثل على أن من أصلية والمفعول موصوف الجار والمجرور المحذوف، وقيل المفعول مضمون {مِن كُلّ مَثَلٍ} أي بعض كل جنس مثل، وأيًا ما كان فالمراد من المثل إما معناه المشهور أو الصفة الغريبة التي هي في الحسن واستجلاب النفس كالمثل، والمراد أنه تعالى نوع ضرب الأمثال وذكر الصفات الغريبة وذكر من كل جنس محتاج إليه داع إلى الإيمان نافع لهم مثلًا لا أنه سبحانه ذكر جميع أفراد الأمثال، وكأن في الآية حذفًا أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا.
{وَكَانَ الإنسان} بحسب جبلته {أَكْثَرَ شَيء جَدَلًا} أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل، وهو كما قال الراغب وغيره المنازعة فاوضة القول، والأليق بالمقام أن يراد به هنا الخصومة بالباطل والمماراة وهو الأكثر في الاستعمال. وذكر غير واحد أنه مأخوذ من الجدل وهو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلًا من المتجادلين يلتوي على صاحبه، وانتصابه على التمييز، والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل وعلل بسعة مضطربة فإنه بين أوج الملكية وحضيض البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفل مقام معلوم.
والظاهر أنه ليس المراد إنسانًا معينًا، وقيل المراد به النضر بن الحرث، وقيل ابن الزبعري، وقال ابن السائب: أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتى بعظم قد رم فقال: أيقدر الله تعالى على إعادة هذا وفته بيده؟ والأول أولى، ويؤيده ما أخرجه الشيخان. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه«أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلًا فقال: ألا تصليان فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئًا ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا فإنه ظاهر في حمل الإنسان على العموم، ولا شبهة في صحة الحديث إلا أن فيه إشكالًا يعرف بالتأمل، ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال: المختار في معناه أنه صلى الله عليه وسلم تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه، وقيل قال صلى الله عليه وسلم ذلك تسليمًا لعذرهما وأنه لا عتب اه فتأمل.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)}
{وَمَا مَنَعَ الناس} قال ابن عطية. وغيره: المراد بهم كفار قريش الذين حكيت أباطيلهم، وما نافية.
وزعم بعضهم وهو من الغرابة كان أنها استفهامية أي أي شيء منعهم {أَن يُؤْمِنُواْ} أي من إيمانهم بالله تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك {إِذْ جَاءهُمُ الهدى} أي القررن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإطلاق الهدى على كل للمبالغة {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل، وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل.
واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الاستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر.
وقال بعضهم: لا شك أن الإيمان مع الاستغفار أكمل من الإيمان وحده فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الاتصاف بأكمل ما يراد منهم، ولا يخفى أنه ليس بشيء، وقيل ذكر الاستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل ما منعهم أن يؤمنوا إيمانًا حقيقيًا {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاولين} وهم من أهلك من الأمم السالفة، وإضافة السنة إليهم قيل لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة الله تعالى فيهم، والمراد بها الإهلاك بعذاب الاستئصال، وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل {مَنَعَ} والكلام بتقدير مضاف أي ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج، وجوز صاحب الفينان تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك، وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير الله تعالى إتيان الهلاك عليهم، وقال: إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثنى، والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلًا} منتظر قطعًا، وقيل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما.
واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزم الدور. ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب ثل قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 23] إلخ. وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئًا عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئًا عن العناد.
واعترض أيضًا بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعًا.
وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب انع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى، وقيل المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلبًا حقيقيًا قلبيًا ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن بالله عز وجل فكأنه قيل ما منعهم من الإيمان بالله تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعد على تركه، ولا يخلو عن دغدغة.
وقيل الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب فكأنه قيل ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي. وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدمًا عليه ومتى كان الاستحقاق مانعًا منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل. وأجيب نع كون عدم الإيمان سببًا للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر، وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر، وإن شئت فقل: هو مانع من الإيمان، ومن هنا قيل ءن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وإن مآل الآية ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده، وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له، ورا يقال بناءً على هذا أن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص، وأما سوء الاستعداد وخباثة الذات فراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعًا فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله:
ولا عيب فيهم

البيت.
والمراد نفى أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم يصلح أن يكون حجة لهم أصلًا كأنه قيل لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجيء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي وحيث أن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلًا انتهى.
ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد وإنكار ذلك مكابرة، والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسا تعلم يجعلون منشأه الاستعداد، وفي معناه تقدير الإرادة أي إرادته تعالى وعليه اقتصر العز بن عبد السلام، ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94] بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي فإن إرادة الله تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث رسول لأن المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك، وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم. وادعى الإمام تعدد الموانع وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال: قال الأصحاب إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم فإذا كان ذلك العلم قائمًا كان المانع قائمًا، وأيضًا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلابد أن يقال: المراد فقدان الموانع لمحسوسة انتهى فليتأمل فيه.
والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع أي أو يأتيهم العذاب أنواعًا وألوانًا أو هو عنى قبلًا بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد أي عيانًا فإن أبا عبيدة حكاهما معًا بهذا المعنى؛ وأصله عنى المقابلة فإذًا دل على المعاينة، ونصبه على الحال فإن كان حالًا من الضمير المفعول فمعناه معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا، وإن كان من العذاب فمعناه معاينًا لهم أو للناس. وقرأت طائفة {قُبُلًا} بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في البحر تخفيف قبل على لغة تميم. وذكر ابن قتيبة. والزمخشري أنه قرئ {قُبُلًا} بفتحتين أي مستقبلًا. وقرأ أبي بن كعب. وابن غزوان عن طلحة {قَبِيلًا} بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة أي عيانًا ومقابلة.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال {إِلا} حال كونهم {مُبَشّرِينَ} للمؤمنين بالثواب {وَمُنذِرِينَ} للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل} باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتًا وقولهم لهم «مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا» [يس: 15] {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} [المؤمنون: 24] إلى غير ذلك، وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد، والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحًا مما يصدق عليه ذلك {لِيُدْحِضُواْ} أي ليزيلوا ويبطلوا {بِهِ} أي بالجدال {الحق} الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، وأصل الإدحاض الإزلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر:
وردت ونجى اليشكري حذاره ** وحاد كما حاد البعير عن الدحض

وقال آخر:
أبا منذر رمت الوفاء وهبته ** وحدت كما حاد البعير المدحض

واستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول، وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي:
أتانا بوحل لأفكاره ** ليزلق أقدام هدى الحجج

{واتخذوا ءاياتي} التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولًا أو فعلًا {وَمَا أُنْذِرُواْ} أي والذي أنذروه من القواع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم {هُزُوًا} أي استهزاء وسخرية.
وقرأ حمزة {هزأ} بالسكون مهموزًا. وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزًا؛ وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به.